داود كُتّاب– خاص ب ملح الارض
لم يكن مفاجئ مشاهدة إنسان يعيش في وضع اقتصادي صعب في الأردن يختار أن يعيش حياة موازية كلها أكاذيب. ففي فيلم “الحارة” من تأليف وإخراج، باسل غندور، نتعرف على شاب “علي” يعيش كذبه تقنع كل من حوله بها.
فقد أقنع أهله وأصدقائه أن لديه شركة تتواصل مع أمريكا الأمر الذي يجبره على الغياب في ساعات الليل حيث يكون ضمن ساعات العمل في الولايات المتحدة. ولكننا نعترف بسرعة أن عمله الليلي لا يتعدى أن يكون وسيط للرجال أعمال في زيارة للأردن يبحثون في ساعات الليل على مكان للشرب والسهر والتعرف على بائعات هوى.
وطبعا الكذبة استمرت في كافة فصول الفيلم من الادعاء انه سيسافر الى إسطنبول وطبعا قمة مأساة الكذب تكون عندما اقنع حبيبته بترك الزواج المقترح عليها والسفر المزعوم معه الى إسطنبول في حين انه كان مستأجرا شقة في أحد أحياء عمان لتكتشف الحبيبة الكذبة وتهرب عائده الى بيتها الامر الذي يجعل أمها تدرك ما يجري وتطعن للموت الحبيب.
حياة الكذب لم تنته بموت البطل، ولكن رفيق علي، الحلاق، يقوم بإرسال أصدقاءه لبيت العزاء مدعين أنهم من شركة علي المزعومة ومن ثم يتم اظهار سيارته المرسيدس على أساس أن علي توفي في حادث سير في طريقه إلى إسطنبول علما ان الشرطة قد قالت للجد أن علي لا يملك جواز سفر. فيلم شبه تقليدي يعكس من يعيش ويموت من خلال حياة ملؤها الأكاذيب.
يبقى سؤال محير هل من يعيش حياة ملؤها الكذب أمر استثنائي ينطبق على صنف أو طبقة معينة من المجتمع أم هل الظاهرة أكثر توسعا.
فمن منا لم يتفاجأ يوما ما بان صديق أو قريب كان ينظر لهم بأنهم قمة في المثالية والنقاء والحياة الصالحة لهم حياة موازية كلها كذب وعنف وجرم وعدم احترام. من منا لم يتعرف على أستاذ أو طبيبا او رجل دين كان القدوة له في الحياة ثم يكتشف أن نفس الشخص كانت له حياة موازية معاكسة للصورة التي يتم طرحها أمام الناس والتي يقوم صاحبها بتسويقها ومن منا لم يتعرف على زوجان يبديان أمام العالم أنهم في قمة الحب والولاء ليتم الاكتشاف أنه يعنفها وان الزواج المثالي هو صورة غير صادقة عن حياة زوجية ملئها أكاذيب والخيانات الزوجية.
الكاتب والمخرج قد يكونا وقعا في نفس الفخ الذي يقع فيه صانعو أفلام هوليوود والذين يقومون بشيطنة الطبقة الفقيرة ولا يقدمون حتى ولا إشارة لوجود نفس الظاهرة لدى أشخاص من باقي طبقات المجتمع.
الرياء والكذب والحياة الموازية لدى أشخاص في مواقع قيادية مضرة أكثر بكثير من الحياة الموازية التي عاشها بطل فيلم الحارة علي.
تصوروا مثلا رجل دين يحلف يمين زورا او أستاذ يقوم بالمشاركة في تزوير شهادة أو مرشد اجتماعي ينصح بشخص يعرف انه سيء على أنه كامل الأوصاف أو يشجع على زواج يعلم أن لا مستقبل له أو شخصية ذات نفوذ يتوسط إنسان يعرف عنه الأمور السلبية الكثيرة.
والسؤال المهم ماذا يحدث عندما يكتشف طفل او شاب ان الشخص الذي كان يتطلع له وكان يعتبره قدوة له هو نفسه جزء من كذبه. كيف يمكن لمؤمن أن يتناول القربان من قس او خوري قام بسرقة، او تزوير، او ضرر لشخص، أو عائلة ظلما وبهتانا.
ينتقد الكتاب المقدس بشدة من يعثر الأطفال بسلوكه وينطبق ذلك على من هم في مواقع عالية ينظر لها المجتمع بالاحترام وثم يعثروا الآخرين.
يسرد لنا الطبيب لوقا في إنجيله السابع عشر قول السيد المسيح لتلاميذه: «لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ!” وثم يقوم السيد المسيح بتقديم العقاب القاسي التالي لمن يعثر الصغار “خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ، مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ.”
خلاصة الموضوع ان الكذب والاحتيال مرفوض كان ذلك من أي طبقة ومن أي مجموعة، ولكن عندما يكون الكذب ممن نتطلع لهم باحترام من أساتذة ومهنيين ورجال دين ووزراء ونواب واعيان فان الضرر أكثر بكثير فكلما ارتفع الموقع زادت المسؤولية والتحدي في أن يحافظ من وصل إليها يده، ولسانه وأعماله صادقة ونظيفة.